mardi 1 mai 2012

ملاحظات حول وضع الآثار في بيروت


ملاحظات حول وضع الآثار في بيروت
حديث مع الدكتور ناجي كرم
النشره -الخميس 26 نيسان 2012 - ناجي كرم* 
لقد كثر الكلام في الفترة الأخيرة عن بعض المواقع الأثرية في بيروت وبشكل خاص عن المرفأ الفينيقي ومدرج سباق الخيل العائد إلى الحقبة الرومانية. وكان لا بد من رفع الصوت عاليا احتجاجا على محاولة إزالتهما، كما القمامة، من وسط العاصمة. ولكن، ماذا لو لم تكن هذه المسألة سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد؟ فالوضع أشمل وأخطر بكثير مما يبدو عليه؛ والمراقب المتخصّص لا بد وأن يقف مشدوها أمام الواقع المرّ والوقائع الخطيرة التي نطرح بعضها بعيدا عن كل خلفية جدلية، فما يهمّنا هو تراثنا والحفاظ على القليل الباقي منه في قلب عاصمتنا الوطنية التي كانت يوما أم الشرائع. 
 
أولاً: في الوضع القانوني.
يفرض القانون أن يشرف على الحفرية الأثرية إما آثاري ذو خبرة في المديرية العامة للآثار وإما أستاذ جامعي موفد من قبل جامعة أو معهد عال للآثار. وقد طبّق هذا القانون بحزم حتى في أيام عز سوليدير وبطشها، إذ شاركت فرق عدة زادت على العشرين، من جامعات لبنان وعدد من الجامعات الأوروبية والعالمية.
منذ العام 2005، استبعدت الجامعة اللبنانية عن الحفريات في بيروت بحجة أنها لا تملك ما يلزم من التمويل ولا من أصحاب الكفاءة العلمية، واستبعدت االجامعات الخاصة لأن أساتذتها "لا يستحقون حمل لقب الدكتوراه"،  واستبعدت الجامعات الأجنبية بحجّة أنها لا يمكن أن تهتم بآثار لبنان أفضل من اللبنانيين  وبحجّة أن العلماء الأجانب "لا يأتون إلا لمصالحهم المالية"، مع العلم أن البعثات الأجنبية تأتي ومعها تمويلها الخاص ولا تكلّف لبنان شيئا. ولسدّ هذا الفراغ المفتعل، سُلّمت حفريات بيروت الى شركة خاصة أسسها أشخاص لا يزالون طلاّبا ولم ينه أي منهم شهادة الماستر.  ومن الطبيعي أن تسعى هذه الشركة الى الربح المادي الذي يشرّع بدوره الأبواب أمام مساومات محتملة على حساب التراث.
 
ثانيا:في الوضع العلمي.
تفرض المنهجية العلمية على الباحث حين يقوم بحفرية أثرية أن ينشر تباعا نتائج عمله في تقارير علمية (Rapports préliminaires) تضع المكتشفات الجديدة في متناول المهتمّين من أهل الاختصاص وغيرهم وتحفظ لنا وثائق مكتوبة ومصوّرة في حال تعرض الموقع للتخريب. وتشهد مجلّة "بعل" التي تصدرها المديرية العامة للآثار على نقيضين:
الأول، أن كل الفرق العلمية التي شاركت في حفريات بيروت في التسعينات نشرت مكتشفاتها وتقاريرها العلمية بمهنية وجدّية، فكانت على مستوى دورها الأكاديمي والعلمي، فوفّرت مادة كاملة لأعداد عدة من المجلّة، وحفظت لنا بالنص والصورة والخارطة والرسم البياني كل ما اكتشف في بيروت.
الثاني، أن مجلّة بعل خالية تماما من أي تقرير علمي أو معلومة عن حفريات بيروت منذ ما يزيد على السنوات الست، مع العلم أن الحفريات الأثرية لم تتوقّف يوما طوال تلك المدة. والسبب الرئيسي، في رأينا – إلا إذا كانت هناك حلقة مخفية -   يكمن في كون من يقوم بالحفريات الأثرية لا يملك بعد القدرة العلمية ولا المنهجية الأكاديمية ولا الخلفية الثقافية الكافية لنشر المكتشفات، مما يعني عمليّا أننا فقدنا ما يقارب سبعين موقعا أثريا دون أن يبقى لها أثر لا على الأرض ولا حتى في الصور.

ثالثا:في مصير الآثار.
أيام عزّ سوليدير وبطشها في التسعينات، قمنا بحملات قوية عدة من أجل الحفاظ على عدد من المواقع الأثرية. كنا وما زلنا على قناعة بأنه لا بد من أن تبقى بعض الآثار في أرضها لتشهد من جهة على تاريخ بيروت العظيم ولتصبح في الوقت ذاته محجّة للسياحة الثقافية. وعلى الرغم من التهديدات ومحاولات الرشوة، وعلى الرغم من نظرية هانس كورفر التي تقول بعدم ضرورة الإبقاء على أي موقع أثري في مكانه، استطعنا، مع دعم منظمّة اليونسكو واللجنة الدولية التي ألّفتها، أن نفرض الحفاظ على بعض المواقع ولو القليلة: التل القديم، الحي الفينيقي، موقع السراي الصغيرة.
منذ 2005 تم حفر ما يقارب سبعين موقعا في بيروت. وقد تم اقتلاع كل ما تم اكتشافه حتى اليوم باستثناء موقع مينا الحصن المكتشف حديثا والذي كان موضع مساومة مشبوهة لاقتلاعه. ما الفارق إذاً بين ما كان يفعله هانس كورفر الهولندي الذي طالبنا غير مرّة بمحاكمته وطرده، وبين هانس اللبناني؟  بل إن المقارنة بينهما قد تأتي، ويا للآسف، لصالح الهولندي، الذي اتبع طريقة في التبويب دقيقة جدا ونشر عددا من تقاريره العلمية في مجلة البعل. في حين أنه لم تنشر بعد تقرير علمي واحد من قبل الشركة الخاصة، مما يضعنا أمام كارثة تاريخية علمية هي من الآخطر في تاريخ الآثار في لبنان.
هل من المعقول، وفي قلب بيروت العظيمة في التاريخ، أنه لم يتمّ اكتشاف أي أثر جدير بأن يحافظ عليه في أرضه، مع العلم أن عمليات الحفر قد شملت مساحات واسعة جدا وفي أماكن جغرافية متفرّقة؟  ترى، من تحمّل ويتحمّل مسؤولية قرار اقتلاع تاريخنا من أرض بيروت؟ نسأل مذهولين، أوليس ذلك من حقنا وواجبنا؟
 
رابعا:في  المسؤولية.
طالما أن المديرية العامة للآثار تابعة لوزارة الثقافة فإن هذه الوزارة تعتبر مؤتمنة على آثار لبنان وإرثه التاريخي. وعلى المسؤولين فيها أن يحصروا  جهدهم – لا بل أن يستميتوا – في الدفاع عن تراثنا العظيم. هذا هو على الأقل مفهومنا نحن لحمل المسؤوليات الوطنية. فما هو واقع الحال؟
منذ آب الماضي طوّق معالي الوزير نفسه بحفنة صغيرة ممّن أسماهم بالأكاديميين. حذّرناه في حينه من خطورة هذا القرار، لأن هؤلاء "الأكاديميين" سيفجّرون المديرية العامة للآثار. 
اوّلا: لأنّهم  يأتون  بأحلام وعقد لا علاقة لها لا بالتراث ولا بالآثار.
ثانيا: لأنّهم سيلفلفون الفضائح بدلا من فتح الملفات وإصلاح ما يجب إصلاحه.
ثالثا: لأنّهم  سيخلقون  فراغا مصطنعا من خلال استبعاد العلماء الأجانب واحتقار العلماء اللبنانيين، وذلك من أجل أن يحكموا قبضتهم على المديرية.
رابعا: لأنّهم سينتقمون من بعض الموظفين "الأعداء" لثأر قديم يدغدغ بعضا من أعضائها.
ما يحزننا اليوم هو أن ما حذّرنا منه قد حدث بالفعل. بل إن "حفنة الأكاديميين" ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير. فهي لم تكتفِ بكل ذلك ولا بإعادة الغطاء للشركة الخاصة التي تنظّف بيروت من آثارها، بل راحت تنبش قرارات وزارية سابقة تقضي بالحفاظ على عدد من المواقع الأثرية في وسط العاصمة بهدف نسفها والسماح باقتلاع الآثار من أرضها التاريخية، وذلك تحت شعار "التفكيك والدمج" يعني الضحك على الناس. وقد أصدرت أول حكم بالإعدام على ميدان سباق الخيل، في تقرير من خمسة أسطر فقط لا غير ومن دون أن تكلّف نفسها زيارة الموقع ولو لمرّة واحدة. وهو ما اعتبره معالي الوزير "إنجازا مهمّا".
أما "الإنجاز" الثاني فهو التقرير "العلمي" الذي يعدّه "الأكاديميون" ليبرهنوا  للرأي العام أن منشآت المرفأ الفينيقي في مينا الحصن ليست سوى "مقلع صغير للحجارة" وهو معدّ بطبيعة الحال "للتفكيك والدمج".
وقد بتنا نخشى أن يكون الإنجاز الثالث تحويل التل الفينيقي إلى "مجرّد رجمة من الحجارة يشوّه وجودها قلب بيروت ويجب جرفها". ومن يدري، قد يفتي "الأكاديميون" بأن  "أعمدة بعلبك ليست في مكانها التاريخي ومن الأفضل تفكيكها ودمجها في وادي البردوني".

إن ما يجري في بيروت اليوم يمكن اعتباره – كما أيام سوليدير – مجزرة حضارية كبرى. ومن حقنا أن نسأل بالصوت العالي: لماذا هذا الحماس الزائد في التفريط بآثار بيروت؟ هل المصلحة الوطنية هي التي تفرضه؟ أم "الذوق الفريد" في تجميل المدن؟ أم الجهل بكل بساطة؟ أم – وفق ما تردّده الإشاعات القوية – غير ذلك؟
 
* استاذ الفنون والآثار الفينيقية ورئيس سابق لقسم الفنون والآثار في الجامعة اللبنانية
 
 التعريفات: ناجي كرم - الآثار - مقالات وأراء



JTK = Envoyé de mon iPad.

Aucun commentaire: