"طرابلس كل العصور" محاكاة عن فكرة لإيلي سالم
تاريخياً عابرة للأصوليات في التنوّع والانفتاح
النهار - ١٩/٥/٢٠١٢
استغرق العمل على إنجاز هذا الكتاب، تحريراً وتصويراً، ثلاث سنوات. وكانت العلاقة بين الصور والنص ترسم منحى الكتاب. كان النص يفرض على الصور إيقاعاً خاصاً وزوايا نظر محدّدة. ولكن مع كل صورة جديدة كنت أستوحي فكرة جديدة، فأقوم بإدخال تعديلات في النص. إذاً كان الحوار ملازماً للصور وللنص معاً...".
الأستاذة الجامعية، المُتخصّصة في الأدب العربي الحديث، هند أديب، أعادت إكتشاف طرابلس، التي وُلدت وأمضت فيها طفولتها ومُراهقتها، خلال عملها على كتاب "طرابلس، مدينة كل العصور". كما أعادت، على قولها، "إمتلاكها مجددا". تروي، "كان بيت أهلي في محلة أبي سمراء مُلاصقاً لقلعة طرابلس حيث كنت أمضي أوقات فراغي، ألعب مع رفاق الحي في أروقتها ودهاليزها". وقد حملت في ذاكرتها، "صوراً عن القلعة وأحياء المدينة القديمة وأسواقها وازقّتها، إضافة إلى معالمها الأخرى". وفكرة إصدار هذا الكتاب، كانت، على قولها، "للدكتور إيلي سالم، رئيس جامعة البلمند، لما يكنّه لهذه المدينة من محبّة وتقدير كبيرين. إذاً، هو الذي أطلق الفكرة ثم طلب منّي أن أنجز كتاباً عن هذه المدينة العريقة". وكان هدف سالم، منذ البداية، "تأليف كتاب لا يشبه الكتب الموجودة، لا هو تاريخي ولا أركيولوجي ولا سياحي". كتاب، أراده، "فخماً، يحكي بالصور مختلف أوجه الحياة في طرابلس اليوم. لهذا السبب ربما وقع إختياره عليّ كوني طرابلسية، وكون تخصصي أدبي. فأنا لست مؤرّخة ولا عالمة آثار". التاريخ لا يوبّخ الحاضر في هذه المدينة التي تُربّت على كتف الأيام، بلمسات دافئة، حنونة. فهو مُنهمك بمُراقصته، مُرافقته، وأحياناً توجيهه، مُطلقاً العنان للمشاهد المُتتالية التي تعود من الماضي، لتتداخل مع رائحة زهر الليمون التي "تُسيّج" بساتين "البلد"(وهو الإسم الذي يُطلقه أبناء طرابلس على مدينتهم)، فتتساقط قطرات قطرات على يوميّاتها. وإذا كان بعضهم يرى ان المُخيلة تضطلع بدور رئيسي في كتابة التاريخ، فإن قارئ "طرابلس مدينة كل العصور"، سيفهم، منذ أحرفه الأولى ان الحب الصافي كان اللغة التي توسّلت بها هند أديب لدى كتابتها النصوص الأنيقة، كما كان المُرشد للصور التي إلتقطتها عدسة الفنّان الراحل ماريو سابا، الأقرب إلى أروقة مُزخرفة بنقوش الإبداع، والتي تفصل ما بين الواقع والخيال، وستارة الإخراج الغني الذي وقّعته إلسا دورليان.
يستهلّ الدكتور سالم مُقدّمة الكتاب، قائلاً، "منذ مجيئي إلى جامعة البلمند كرئيس لها في مطلع التسعينات من القرن المنصرم، وأنا أنظر من على هذه التلّة البلمندية الخلابة إلى مدينة طرابلس التي درست فيها خلال سنّي المراهقة. والتي أتوق إلى زيارتها والسير في شوارعها وأزقّتها. وإرتياد مطاعمها الشعبية المميّزة. كنت أفكر دائماً بوضع كتاب يعرّف عنها. كتاب من صور يشد القارئ إليها. صور تتكلم ببلاغة الصمت عن هذه المدينة العريقة المعروفة بالنسبة إلى التاريخ منذ أن دوّن التاريخ". ومن هذا المُنطلق، تؤكّد أديب ان سالم، "تابع كل مراحل اعداد الكتاب: النص، الصور والإخراج. وكان حاضراً في شكل دائم ومستمر خلال كل المحطات: يُناقش الأفكار، ويختار الصور، ويعلّق على الإخراج". وقامت أديب ببحوث كثيرة، "فقرأت كل ما كُتب عن طرابلس من النواحي التاريخية والأركيولوجية والجغرافية والاقتصادية والاجتماعية... كما تباحثت مع العديد من المثقفين والمؤرخين وعلماء الإجتماع الذين يعرفون المدينة وتاريخها. فكوّنت فكرة واضحة عنها، وتالياً تكوّنت لدي فكرة كتاب مختلف عن تلك التي يغلب عليها الطابع البحثي-الأكاديمي". وبغض النظر عن الصداقة التي ربطتها بالفنان الراحل ماريو سابا، "فإن العمل معه كان شاقاً وشيّقاً في الوقت عينه"، إذ إلتقطت عدسته تسعة الآف صورة، "ما جعل من عملية إختيار أماكن التصوير والزمن المناسب، مسألة غاية في الصعوبة والدقّة، خصوصا وأن ماريو لم يستعمل أبداً وسائط تقنية وإضاءات مصطنعة لإلتقاط المشاهد بل إعتمد على الإضاءة الطبيعية. وكنت أرافقه في الكثير من الأحيان، خصوصا في أحياء المدينة القديمة وأزقتها التي أعرفها جيداً". وبعد الإنتهاء من التصوير، "دخلنا مرحلة إخراج الكتاب. ولم يكن الإخراج مسألة سهلة. فمخرجة الكتاب، إلسا دورليان، قدّمت، خلال اجتماعات مطوّلة، تصوّرها لهذا المؤلّف، وذلك بعدما استمعت إلى التفسيرات التي أعطيت لها من المصوّر وكاتب النص... مثلاً ترجمت عنوان الكتاب من خلال مدّ الصور على صفحتين، أي صور عابرة للصفحات كمحاكاة لمدينة عابرة للعصور. وكذلك كان تبنّي الصور الكبيرة يهدف إلى إظهار عظمة المدينة ومعالمها". وقد سعت أديب، "بمساعدة ماريو، إلى إعطاء صورة عن طرابلس كما طبعت في خيالها وذاكرتها. فالفصول التي تكوّن الكتاب تحكي في حدّ ذاتها رواية علاقة مواطن طرابلسي بمدينته: القلاع، دور العبادة، الأسواق والخانات والحمامات، الأزقة والأدراج، الأحياء بساحاتها وحدائقها ومنازلها، الأبواب والنوافذ، الحرف والمهن، المقاهي، وجوه وسمات، المراكز الثقافية والحرم الجامعية، الميناء، ومشاهد عامة". وهذه الفصول، ليست، على قولها، "منفصلة عن بعضها البعض، فهي في منزلة محطات في الذاكرة، إنطباعات من خيال المدينة". وجاء إصدار هذا الكتاب، "في زمن تزداد فيه الأصوات والآراء لتعطي عن طرابلس فكرة خاطئة بأنها مدينة أحادية اللون، متخلّفة، مصدرة للأصوليات...طرابلس الحقيقية هي ما هو موجود في الكتاب وليس ما تتناقله الألسن من سلبيات. فمدينة تتمتّع بهذا البعد التاريخي، لا يمكنها الا أن تتحلّى بالجمال والعراقة والتنوّع والإنفتاح".
ربما كان التاريخ هو الحياة. ولكننا سنكتشف، من خلال هذا الكتاب الذي يروي فصولاً من ملحمة تستريح على الإفتتان، ان النقاط التفصيلية التي "نُحيك" من خلالها يوميّاتنا تُشكّل، في الواقع، الحياة التي نحتاج إليها، وإن كان التاريخ يصرّ على أن يكون مصراع نافذتها، رغبةً منه، في أن يحميها.
JTK = Envoyé de mon iPad.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire